محمد أبي سمرا 5\7\2009 | النهار
صارت الإجراءات القانونية والادارية اللبنانية المتبعة في تنظيم شؤون الخادمات الاجنبيات العاملات في بيوت اللبنانيين، حيث يجري قهرهن ومعاملتهن بصلف شبه عنصري أو إستعماري في كثير من البيوت، واحدة من الصور الفاقعة في دلالاتها على أحوال لبنان ومسالك أهله في الاعلام العالمي اليوم. فقانون استقدام الخادمات الاجنبيات، من سري لانكيات وفيليبينيات وحبشيات وأثيوبيات وبنغلاديشيات... إلى لبنان، وإجراءات هذا القانون الادارية والتنفيذية، تمنح اللبنانيين جميعاً حق التصرف الحر والاستنسابي، بحسب أهوائهم وأعرافهم وقيمهم الخاصة المزاجية والمتضاربة، مع هؤلاء الخادمات اللواتي تحولهن قوانيننا وأعرافنا جيشاً لجباً من الكائنات الصامتة والمكتومة والخائفة، والتي لا سلطان لها من نفسها على حياتها وخياراتها وسكنها وحلّها وترحالها. وذلك منذ أن تطأ قدما أي منهن أرض مطار رفيق الحريري في بيروت، وحتى تغادره عائدة الى بلدها. ونظام استقدام الخادمات الاجنبيات وتشغيلهن في البيوت اللبنانية، هو نظام قهري، يتواطأ عليه اللبنانيون جميعاً، مجتمعاً ومؤسسات خاصة (مكاتب استقدامهن من بلدانهن) وعامة ورسمية من وزارات العمل والداخلية والعدل، وتوابعها من أمن عام وأجهزة أمن داخلي، وصولاً الى الدوائر القضائية. في هذا الملف الذي يتوالى على حلقات اسبوعية منفصلة، نروي شهادات ومشاهدات وحكايات تفصيلية تبيّن التواطؤات اللبنانية المعقدة والمتشابكة في مجال تعاملنا مع الخادمات الاجنبيات في لبنان. والحلقات المنفصلة هذه لا ترينا صورتنا في مرآة تعاملنا مع خدمنا فحسب، بل إنها تكشف عن وجه من وجوه نظام قيمنا وتصور المدى الذي بلغه انحطاط مؤسساتنا. في الحلقة الاولى من هذا الملف حكاية تصور أحوال خادمة سري لانكية في مخفر قوى الأمن الداخلي في فاريا.
بعدما علمت أن كمد الخادمة السري لانكية، آريا، العاملة في منزلي، وحزنها الباكي، سببهما مضي نحو 3 سنوات على منع ابنتها، أنوشا، العاملة خادمة في منزل طبيب أسنان في فاريا، من رؤيتها، إتصلت هاتفياً بمنزل الطبيب مستفسراً، فصدتني زوجته، معتبرة أنني أتدخل في شؤون منزلها الخاصة، وأقفلت سماعة الهاتف قبل أن أنهي مكالمتي معها. وإذ استمر كمد آريا وبكاؤها، أعلمتني ايضاً أن الطبيب وزوجته لا يسمحان قط لابنتها أن تخرج من منزلهما، ولا يدفعان لها مرتباتها الشهرية المستحقة، ويضربانها وامتنعا عن تجديد إجازة عملها وإقامتها في وزارة العمل وفي المديرية العامة للأمن العام.
اتصلت بأحد المحامين سائلاً مستفسراً عما يمكن فعله في هذه الحال، فأعلمني المحامي بأن على آريا أن تتقدم بنفسها بدعوى قضائية في النيابة العامة في حق الطبيب، فاصطحبتها الى مقر النيابة العامة في قصر العدل، حيث ساعدتها في تقديم الدعوى التي سمح لنا موظف النيابة العامة حمل محضرها باليد وإيصاله الى مخفر قوى الأمن الداخلي في فاريا، للحيلولة دون تأخره أو ضياعه، إذا تركنا أمر وصوله الى المخفر عبر التسلسل الاداري.
رقيب مخفر فاريا
في النهار التالي اصطحبت آريا في سيارتي الى فاريا، وحين وصلنا الى مخفرها حاملين محضر النيابة العامة، أبلغنا الدركي المناوب بأن الرقيب المخوّل تسلم مثل هذه المحاضر، لم يحضر بعد الى المخفر، فانتظرناه أكثر من ساعتين من دون جدوى. وحين سألنا الدركي، قال إن الرقيب قد لا يحضر اليوم، وعلينا أن نأتي غداً لتسليمه المحضر وإجراء المقتضى. عدت وآريا الى مخفر فاريا في النهار التالي، فالتقينا الرقيب في مكتبه. بعدما قرأ محضر الدعوى متمعناً في مضموه، رفع رأسه مستهجناً مستنكراً، ثم قال كأنه يخاطب نفسه أو شخصاً آخر غير موجود معنا في مكتبه: دعوى قضائية من سري لانكية ضد الدكتور اللبناني؟! ثم كرر اسم الطبيب مرات متتالية، غير مصدق ما أبصرته عيناه في المحضر. لم أدرك في البداية سبب استهجانه واستنكاره، لكنني سرعان ما أدركته حين توجه بكلامه المتأفف المتعالي الى آريا، قائلاً: خادمة سري لانكية وتتقدمين بشكوى في النيابة العامة ضد الدكتور؟! من كتب لك هذا المحضر؟! بعد ناقص سري لانكية تشتكي على لبناني؟! ثم نظر الرقيب اليّ محدقاً في وجهي، وقال في نبرة ساخرة: أنت لبناني؟! وقبل أن أجاوبه، سألني: وهل تشتغل أنتَ عندها؟ للمرة الاولى أرى لبنانياً يشتغل عند سري لانكية في لبنان. حين أعلمته بأن آريا تعمل في بيتي وأساعدها لرؤية ابنتها، سألني مجدداً: أنت شو خصك، هيا اتركها هنا، وانتظر خارج المخفر لأحقق معها... يا عيب الشوم، لبناني يساعد خادمة سري لانكية ويؤازرها على لبناني، يا عيب الشوم! أخرج، أخرج، أريد أن آخذ إفادتها. تمالكت غضبي وكتمته، وحرت ماذا أقول وأفعل: هل أجاوب الرقيب بكلمات كالتي بادرني بها، أم أتملّقه علّني أصل الى مبتغاي؟ لكن الرقيب لم يمهلني، إذ قال لي بنبرة متنمرة صلفة أن أخرج قبل أن يستدعي رجاله في المخفر لإخراجي.
خرجت من مكتب الرقيب ومن المخفر كله الى سيارتي، ورحت أتصل هاتفياً بمحامين أعرفهم وأسألهم عما يمكنني أن أفعل، متمنياً تكليفهم بمتابعة الدعوى القضائية، لكن الجميع تملصوا من الامر، موحين لي أن خبرتهم في مثل هذه الدعاوى علمتهم أنها لا تصل الى نتيجة، ولا تستأهل التعب من أجلها. لكن أحد المحامين اقترح عليّ أن اتصل بمحامٍ شاب متدرج يعمل في جمعية من جمعيات المجتمع المدني تهتم بمتابعة شؤون الخدم الأجنبي في لبنان، فاتصلت بالمحامي الشاب الذي استهول الانتقال من بيروت الى فاريا، وطلب مني أن نلتقي في بيروت للتداول في الامر.
دخلت الى المخفر عازماً على اصطحاب آريا والعودة الى بيروت، لكن أحد رجال قوى الأمن الداخلي في المخفر أبلغني بأن الرقيب لم ينتهِ من التحقيق مع السري لانكية، ويمنعني من الدخول الى مكتبه، وعليّ الانتظار في الخارج حتى ينتهي ويناديني. امتثلت للأمر وانتظرت نحو ساعتين في سيارتي مستسلماً للملل والقنوط والغضب، من دون جدوى. ثم رأيت الرقيب نفسه يخرج من المخفر ويغادره، فتقدمت منه وسألته عما كشفته له تحقيقاته مع آريا، فنظر اليّ مزدرياً وقال إن السري لانكية في الداخل ويمكنني أخذها، وأنه لا يرغب في رؤيتي في فاريا بعد الآن، فأخذت السيرلنكية، بحسب لغة الرقيب المزدرية، وعدت الى بيروت خائباً.
السري لانكية - الأميرة!
كلفت المحامي الشاب متابعة الدعوى، لكنني علمت بعد ثلاثة أيام أنه لم يذهب الى فاريا لمتابعتها، فاتصلت بضابط أعرفه في الأمن العام، وأطلعته على فعلة رقيب المخفر، فوعدني بأنه سيتصل به ويحمله على إجراء المقتضى القانوني، وهذا ما فعله الضابط فعلاً، على ما تبين لي حين ذهبت مع آريا الى فاريا، فاستقبلني الرقيب في المخفر، وأرسل ثلاثة دركيين الى منزل طبيب الاسنان لإحضار الخادمة أنوشا. لكن الدركيين عادوا بعد وقت قصير، وقالوا إن زوجة الطبيب رفضت أن تسمح لخادمتها بمغادرة البيت، فطلب مني الرقيب أن أعود غداً، وفي الاثناء يكون هو قد أقنع الطبيب باصطحاب الخادمة الى المخفر.
للمرة الرابعة صعدت الى فاريا مصطحباً آريا التي تركتها في المخفر، وذهبت مع الدركيين الى منزل الطبيب الذي استقبلنا مستفزاً، وقبل على مضض المجيئ الى المخفر مصطحباً خادمته أنوشا. لكنني لدى عودتنا الى المخفر فوجئت بآريا تمسح الارض وتجلي الصحون. وإذ قلت لها أن تتوقف عن المسح والجلي، قالت إن الرقيب أمرها بأن تنظف المخفر، فاستجابت أمره، علّه يساعدها في تخليص ابنتها من عذابها. غير أن الرقيب أزعجه كلامي مع آريا، وفي نبرته المزدرية قال لي: أليست سري لانكية؟! شو بدك نعملها أميرة؟! خليها تنقبر تشتغل شغلها، وحضرتك طلاع لبرا، عطينا قفا ظهرك، وتركنا نقوم بشغلنا، بدنا نحقق مع بنت الاميرة السري لانكية تبعك. هكذا خرجت من المخفر شبه موقن أن ما أقوم به لن يفضي الى نتيجة.
فيما كنت جالساً في سيارتي منتظراً، تذكرت حادثة كنت شاهداً عليها في مدينة فيشي الفرنسية، حيث أمضيت في مطلع ثمانينات القرن الماضي، سبعة أشهر في مركز لتعليم اللغة الفرنسية مع مجموعة من اللبنانيين، فإذا بفتاة منهم - كانت تحضّر شهادة دكتوراه في العلوم الاجتماعية موضوعها تطور أحوال النساء في لبنان وانخراطهن في سوق العمل - تنفر مشمئزة من أن تجلس على مقعد الى جانب شاب أسود البشرة، كان يتعلم معنا اللغة الفرنسية في المركز. وحين سئلت الشابة عن بواعث نفورها المشمئز المتكرر من الشاب الاسود، قالت لأنه أسود، وهي تخاف السود خوفاً غريزياً، وتقرف من الجلوس الى جانبهم، وخصوصاً أن روائح كريهة تنبعث من أجسامهم، تشبه رائحة الخادمات السري لانكيات في البيوت اللبنانية.
بعد ساعتين من الانتظار في سيارتي أمام مخفر فاريا، خرج الطبيب مغادراً، فالتفت اليّ بنظرة متعالية مشمئزة، فيما هو يمرّ قرب سيارتي، من دون أن يبادرني بكلمة واحدة. مضت دقيقة واحدة قبل أن أبصر رجال الدرك يخرجون آريا من المخفر، ويدفعونها دفعاً غير آبهين بعويلها الباكي، فيما هي تتوسل اليهم بأن يدعوها ترى ابنتها. وحين أوصلها الدركيون الى سيارتي، قال لي أحدهم إن الرقيب أدخل الابنة، أنوشا، الى سجن المخفر، بعدما بيّن له التحقيق معها أن إجازة عملها وبطاقة إقامتها انتهت مدة صلاحياتهما منذ أكثر من سنة، من دون تجديدهما، وأن القانون يحتّم توقيفها في هذه الحال، حتى حصولها على إجازة عمل وبطاقة إقامة جديدتين.
دخلت الى مكتب الرقيب في المخفر، فبادرني سريعاً بقوله إن الامر قد انتهى بتوقيف ابنة "سري لانكيتي" لأن اقامتها في لبنان غير شرعية، وسوف يرسلها مع محضر التحقيق الذي أجراه الى سجن التوقيف الاحترازي قرب قصر العدل في بيروت، وما عاد من يدٍ له في الامر، وعليّ مراجعة إدارة السجن المذكور، بعد ايام. والطبيب، الذي حبسها في بيته منذ 3 سنوات، أليس هو المسؤول عن تجديد إجازة عملها وإقامتها، بحسب القانون الاجرائي للخدم الاجنبي في لبنان؟ سألت الرقيب، فجاوبني بأن لا علاقة له في الامر، ولا فائدة لي، بعد، من الكلام، وطلب مني مغادرة مخفره، أي طردني على نحو يستبطن إذلالي والشماتة بي في معرض التهذيب الماكر.
شهادات جمعها وكتبها محمد أبي سمرا
بعدما علمت أن كمد الخادمة السري لانكية، آريا، العاملة في منزلي، وحزنها الباكي، سببهما مضي نحو 3 سنوات على منع ابنتها، أنوشا، العاملة خادمة في منزل طبيب أسنان في فاريا، من رؤيتها، إتصلت هاتفياً بمنزل الطبيب مستفسراً، فصدتني زوجته، معتبرة أنني أتدخل في شؤون منزلها الخاصة، وأقفلت سماعة الهاتف قبل أن أنهي مكالمتي معها. وإذ استمر كمد آريا وبكاؤها، أعلمتني ايضاً أن الطبيب وزوجته لا يسمحان قط لابنتها أن تخرج من منزلهما، ولا يدفعان لها مرتباتها الشهرية المستحقة، ويضربانها وامتنعا عن تجديد إجازة عملها وإقامتها في وزارة العمل وفي المديرية العامة للأمن العام.
اتصلت بأحد المحامين سائلاً مستفسراً عما يمكن فعله في هذه الحال، فأعلمني المحامي بأن على آريا أن تتقدم بنفسها بدعوى قضائية في النيابة العامة في حق الطبيب، فاصطحبتها الى مقر النيابة العامة في قصر العدل، حيث ساعدتها في تقديم الدعوى التي سمح لنا موظف النيابة العامة حمل محضرها باليد وإيصاله الى مخفر قوى الأمن الداخلي في فاريا، للحيلولة دون تأخره أو ضياعه، إذا تركنا أمر وصوله الى المخفر عبر التسلسل الاداري.
رقيب مخفر فاريا
في النهار التالي اصطحبت آريا في سيارتي الى فاريا، وحين وصلنا الى مخفرها حاملين محضر النيابة العامة، أبلغنا الدركي المناوب بأن الرقيب المخوّل تسلم مثل هذه المحاضر، لم يحضر بعد الى المخفر، فانتظرناه أكثر من ساعتين من دون جدوى. وحين سألنا الدركي، قال إن الرقيب قد لا يحضر اليوم، وعلينا أن نأتي غداً لتسليمه المحضر وإجراء المقتضى. عدت وآريا الى مخفر فاريا في النهار التالي، فالتقينا الرقيب في مكتبه. بعدما قرأ محضر الدعوى متمعناً في مضموه، رفع رأسه مستهجناً مستنكراً، ثم قال كأنه يخاطب نفسه أو شخصاً آخر غير موجود معنا في مكتبه: دعوى قضائية من سري لانكية ضد الدكتور اللبناني؟! ثم كرر اسم الطبيب مرات متتالية، غير مصدق ما أبصرته عيناه في المحضر. لم أدرك في البداية سبب استهجانه واستنكاره، لكنني سرعان ما أدركته حين توجه بكلامه المتأفف المتعالي الى آريا، قائلاً: خادمة سري لانكية وتتقدمين بشكوى في النيابة العامة ضد الدكتور؟! من كتب لك هذا المحضر؟! بعد ناقص سري لانكية تشتكي على لبناني؟! ثم نظر الرقيب اليّ محدقاً في وجهي، وقال في نبرة ساخرة: أنت لبناني؟! وقبل أن أجاوبه، سألني: وهل تشتغل أنتَ عندها؟ للمرة الاولى أرى لبنانياً يشتغل عند سري لانكية في لبنان. حين أعلمته بأن آريا تعمل في بيتي وأساعدها لرؤية ابنتها، سألني مجدداً: أنت شو خصك، هيا اتركها هنا، وانتظر خارج المخفر لأحقق معها... يا عيب الشوم، لبناني يساعد خادمة سري لانكية ويؤازرها على لبناني، يا عيب الشوم! أخرج، أخرج، أريد أن آخذ إفادتها. تمالكت غضبي وكتمته، وحرت ماذا أقول وأفعل: هل أجاوب الرقيب بكلمات كالتي بادرني بها، أم أتملّقه علّني أصل الى مبتغاي؟ لكن الرقيب لم يمهلني، إذ قال لي بنبرة متنمرة صلفة أن أخرج قبل أن يستدعي رجاله في المخفر لإخراجي.
خرجت من مكتب الرقيب ومن المخفر كله الى سيارتي، ورحت أتصل هاتفياً بمحامين أعرفهم وأسألهم عما يمكنني أن أفعل، متمنياً تكليفهم بمتابعة الدعوى القضائية، لكن الجميع تملصوا من الامر، موحين لي أن خبرتهم في مثل هذه الدعاوى علمتهم أنها لا تصل الى نتيجة، ولا تستأهل التعب من أجلها. لكن أحد المحامين اقترح عليّ أن اتصل بمحامٍ شاب متدرج يعمل في جمعية من جمعيات المجتمع المدني تهتم بمتابعة شؤون الخدم الأجنبي في لبنان، فاتصلت بالمحامي الشاب الذي استهول الانتقال من بيروت الى فاريا، وطلب مني أن نلتقي في بيروت للتداول في الامر.
دخلت الى المخفر عازماً على اصطحاب آريا والعودة الى بيروت، لكن أحد رجال قوى الأمن الداخلي في المخفر أبلغني بأن الرقيب لم ينتهِ من التحقيق مع السري لانكية، ويمنعني من الدخول الى مكتبه، وعليّ الانتظار في الخارج حتى ينتهي ويناديني. امتثلت للأمر وانتظرت نحو ساعتين في سيارتي مستسلماً للملل والقنوط والغضب، من دون جدوى. ثم رأيت الرقيب نفسه يخرج من المخفر ويغادره، فتقدمت منه وسألته عما كشفته له تحقيقاته مع آريا، فنظر اليّ مزدرياً وقال إن السري لانكية في الداخل ويمكنني أخذها، وأنه لا يرغب في رؤيتي في فاريا بعد الآن، فأخذت السيرلنكية، بحسب لغة الرقيب المزدرية، وعدت الى بيروت خائباً.
السري لانكية - الأميرة!
كلفت المحامي الشاب متابعة الدعوى، لكنني علمت بعد ثلاثة أيام أنه لم يذهب الى فاريا لمتابعتها، فاتصلت بضابط أعرفه في الأمن العام، وأطلعته على فعلة رقيب المخفر، فوعدني بأنه سيتصل به ويحمله على إجراء المقتضى القانوني، وهذا ما فعله الضابط فعلاً، على ما تبين لي حين ذهبت مع آريا الى فاريا، فاستقبلني الرقيب في المخفر، وأرسل ثلاثة دركيين الى منزل طبيب الاسنان لإحضار الخادمة أنوشا. لكن الدركيين عادوا بعد وقت قصير، وقالوا إن زوجة الطبيب رفضت أن تسمح لخادمتها بمغادرة البيت، فطلب مني الرقيب أن أعود غداً، وفي الاثناء يكون هو قد أقنع الطبيب باصطحاب الخادمة الى المخفر.
للمرة الرابعة صعدت الى فاريا مصطحباً آريا التي تركتها في المخفر، وذهبت مع الدركيين الى منزل الطبيب الذي استقبلنا مستفزاً، وقبل على مضض المجيئ الى المخفر مصطحباً خادمته أنوشا. لكنني لدى عودتنا الى المخفر فوجئت بآريا تمسح الارض وتجلي الصحون. وإذ قلت لها أن تتوقف عن المسح والجلي، قالت إن الرقيب أمرها بأن تنظف المخفر، فاستجابت أمره، علّه يساعدها في تخليص ابنتها من عذابها. غير أن الرقيب أزعجه كلامي مع آريا، وفي نبرته المزدرية قال لي: أليست سري لانكية؟! شو بدك نعملها أميرة؟! خليها تنقبر تشتغل شغلها، وحضرتك طلاع لبرا، عطينا قفا ظهرك، وتركنا نقوم بشغلنا، بدنا نحقق مع بنت الاميرة السري لانكية تبعك. هكذا خرجت من المخفر شبه موقن أن ما أقوم به لن يفضي الى نتيجة.
فيما كنت جالساً في سيارتي منتظراً، تذكرت حادثة كنت شاهداً عليها في مدينة فيشي الفرنسية، حيث أمضيت في مطلع ثمانينات القرن الماضي، سبعة أشهر في مركز لتعليم اللغة الفرنسية مع مجموعة من اللبنانيين، فإذا بفتاة منهم - كانت تحضّر شهادة دكتوراه في العلوم الاجتماعية موضوعها تطور أحوال النساء في لبنان وانخراطهن في سوق العمل - تنفر مشمئزة من أن تجلس على مقعد الى جانب شاب أسود البشرة، كان يتعلم معنا اللغة الفرنسية في المركز. وحين سئلت الشابة عن بواعث نفورها المشمئز المتكرر من الشاب الاسود، قالت لأنه أسود، وهي تخاف السود خوفاً غريزياً، وتقرف من الجلوس الى جانبهم، وخصوصاً أن روائح كريهة تنبعث من أجسامهم، تشبه رائحة الخادمات السري لانكيات في البيوت اللبنانية.
بعد ساعتين من الانتظار في سيارتي أمام مخفر فاريا، خرج الطبيب مغادراً، فالتفت اليّ بنظرة متعالية مشمئزة، فيما هو يمرّ قرب سيارتي، من دون أن يبادرني بكلمة واحدة. مضت دقيقة واحدة قبل أن أبصر رجال الدرك يخرجون آريا من المخفر، ويدفعونها دفعاً غير آبهين بعويلها الباكي، فيما هي تتوسل اليهم بأن يدعوها ترى ابنتها. وحين أوصلها الدركيون الى سيارتي، قال لي أحدهم إن الرقيب أدخل الابنة، أنوشا، الى سجن المخفر، بعدما بيّن له التحقيق معها أن إجازة عملها وبطاقة إقامتها انتهت مدة صلاحياتهما منذ أكثر من سنة، من دون تجديدهما، وأن القانون يحتّم توقيفها في هذه الحال، حتى حصولها على إجازة عمل وبطاقة إقامة جديدتين.
دخلت الى مكتب الرقيب في المخفر، فبادرني سريعاً بقوله إن الامر قد انتهى بتوقيف ابنة "سري لانكيتي" لأن اقامتها في لبنان غير شرعية، وسوف يرسلها مع محضر التحقيق الذي أجراه الى سجن التوقيف الاحترازي قرب قصر العدل في بيروت، وما عاد من يدٍ له في الامر، وعليّ مراجعة إدارة السجن المذكور، بعد ايام. والطبيب، الذي حبسها في بيته منذ 3 سنوات، أليس هو المسؤول عن تجديد إجازة عملها وإقامتها، بحسب القانون الاجرائي للخدم الاجنبي في لبنان؟ سألت الرقيب، فجاوبني بأن لا علاقة له في الامر، ولا فائدة لي، بعد، من الكلام، وطلب مني مغادرة مخفره، أي طردني على نحو يستبطن إذلالي والشماتة بي في معرض التهذيب الماكر.
شهادات جمعها وكتبها محمد أبي سمرا
No comments:
Post a Comment