في إطار مرصد قضايا عاملات المنازل
أمام القضاء الذي أطلقته المفكرة القانونية بالتعاون مع منظمة العمل
الدولية وبدعم مالي من الاتحاد الأوروبي وتبعا لبحثها الأول المنشور في
العدد السابق حول قضايا هذه العاملات أمام مجالس العمل التحكيمية، تنشر
المفكرة في هذا العدد مقالا عن كيفية مقاربة القضاء لواقعة ترك العمل من
قبلهن والتي غالبا ما تسمى "بالفرار"، بما يعكس رواسب العبودية. وينشر هذا
المقال على وقع أنباء بمقتل عاملة منزل في منطقة بعبدا فيما كانت تحاول
"الفرار" من المنزل الذي كانت تعمل فيه (المحرر).
عيّنة الأحكام موضوع المقال
حصيلة الأحكام الجزائية التي جمعناها منذ بدء عمل المرصد هي 210أحكام
جزائية صادرة بين شهري كانون الثاني وحزيرانمن العام 2013، وهي تنقسم على
الشكل الآتي: 84 حكما صادرا في محافظة بيروت في قضايا مرفوعة من قبل الحق
العام دون ادعاء شخصي، و37 حكما صادرا في بعبدا (حق عام وشخصي)، و89 حكما
صادرا في جديدةالمتن (حق عام وشخصي). وبالطبع، لحاجات هذا المقال، تعين
علينا منذ البدء أن نصطفي منها الأحكام التي تتصل بحالات الترك مباشرة، أي
بالحالات التي تمت فيها ملاحقة عاملات المنزل على خلفية ترك عملهن في منزل
صاحب العمل. وفيما 94
%من هذه الأحكام (198 حكما)
تناولت ملاحقات متصلة بشروط إقامة الأجانب في لبنان وأن 186 حكما منها
تناولت حصرا هذا النوع من الملاحقات، فإن عدد الأحكام التي تناولت مباشرة
"ترك منزل صاحب العمل" في حيثياتها ينخفض عند التدقيق فيها الى 62 حكما وهي
الأحكام التي سنحصر دراستنا أدناه فيها. أما سائر الأحكام الصادرة في
جرائم مخالفة أحكام الإقامة والتي لم تذكر صراحة الترك، فيرجح أن تكون صدرت
في حالات تقاعس فيها أصحاب العمل أنفسهم عن تجديد أوراقها أو في حالات
كانت فيها العاملة قد تركت العمل، فباتت منذ سنوات كثيرة في وضع غير مشروع
أو ربما أيضا في حالات ترك لم تشر اليها الأحكام صراحة.
الفرار والهروب، مرادفات قضائية من رواسب العبودية
ومن أبرز مايلفت في العينة المشار اليها أعلاه، هو أن 7 من أصل 11 قاضيا
ممن دُرست أحكامهم، استخدموا عبارة "الفرار" أو مرادفها "الهروب" للدلالة
على ترك العاملة في الخدمة المنزلية مكان عملها، وقد تم استخدامها ليس فقط
في سرد الوقائع، إنما أيضا في باب القانون، رغم أننا لا نجد لهذه العبارة
أي محل في النصوص القانونية التي تشكل إسنادا للادعاء أو للحكم كما سنبين
أدناه. وهكذا، وردت عبارة الفرار (أو الهروب) كما سبق ذكره في 62 حكما، وقد
وردت في بابي الوقائع والقانون في 47 حكما، فيما وردت فقط ضمن الوقائع في
12 حكما. والواقع أن "الفرار" عبارة تستخدم في القانون للدلالة على من فر
من السجن أو من فر من وجه العدالة، وذلك في أطر تتعلق بالحرمان من الحرية
الحاصل وفق القانون، أما أن يتم استخدامها للدلالة على مغادرة عامل لمكان
عمله، فهذا يدل على مدى قوة الأفكار المسبقة المتمثلة بشيوع الصورة النمطية
الدونية للعاملات في الخدمة المنزلية، اللواتي يُعددْن بمثابة أشياء تعود
ملكيتها لصاحب العمل طوال مدة العقد أو بمثابة رهائن لديه له أن يستبقيهن
حتى استهلاك استثماره المتمثل في نفقات استقدامهن. وبالطبع، يؤشر هذا
الموقف الى ربط ضمني بين وضع عاملات المنازل ووضع الرقيق الذين كانوا
يعاقبون على خلفية فرارهم من منازل مالكيهم، وتاليا يمكن اعتبار هذا الوضع
كأحد رواسب زمن العبودية.
وللأمانة، نسجل من خلال الاطلاع على عدد من الأحكام من خارج هذه العينة أن
عددا من القضاة يرفضون استخدام هذه العبارة بما تحمله من معان
[1].
الأسناد القانونية لمعاقبة ترك المنزل (الفرار)
ومن بين المواد التي تستند اليها الأحكام لمعاقبة ترك العمل أساساً المواد 15 و21 من المرسوم 17561/1964
[2]
وبعضها مقترنة مع مواد أخرى كالمادة 7 من القرار 136 أو المادة 36 من
قانون العام 1962 أو المادة 636 عقوبات وهي تشكل نسبة 35%. والمادتان 15
و21 من المرسوم المذكور تفرض على كل أجنبي حائز إجازة عمل أو موافقة مسبقة،
أن يحصل على موافقة وزارة العمل المسبقة إذا أراد أن يغير نوع عمله أو
المؤسسة التي يعمل فيها. وبناء على هذه المواد، خلص عدد من الأحكام الى
القول بأن إقامة العاملة التي تركت عملها من دون مراعاتها تصبح تلقائيا في
وضع غير شرعي. وبالطبع، نجد هنا أحد أهم انعكاسات نظام الكفالة المتمثلة في
ربط شرعية الإقامة بعقد العمل، بحيث تنتهي صلاحية الإقامة فور انتهاء
العقد، مهما كانت أسبابه. وما يعزز نظام الكفالة ويوسع مداه، هو العرف
المتبع لدى وزارة العمل بعدم إعطاء الموافقة المسبقة بتغيير صاحب العمل إلا
بعد الحصول على موافقة الكفيل الذي تركت "خدمته". وبالتالي يصبح وجود
العاملة غير شرعي في البلاد وتتعرض للمعاقبة بعدم تجديد الإقامة (المادة 36
من قانون تنظيم الدخول الى لبنان والإقامة فيه والخروج منه) إضافة الى
إمكان معاقبتها بـ"الفرار" من العمل.
واللافت في هذا المجال أنه تم تطبيق هذه المادة في حالات لم يثبت فيها أي
دليل على قيام العاملة بأي عمل جديد، أي في حالات تركت فيها العاملة عملها
السابق من دون أن يثبت بحال من الأحوال أنها باشرت عملا جديدا. وهذا ما
نقرأه بوضوح كلي في الحكم الصادر عن القاضي المنفرد الجزائي في جديدة المتن
في 26/3/2013، في قضية "هرب" عاملة من مكان عملها والتجائها الى منزل تعمل
فيه إحدى قريباتها، حيث عمد رب عمل هذه الأخيرة الى الاتصال بصاحب مكتب
الاستقدام وبتوصيلها اليه. وبعد أن أعلم هذا الأخير صاحبة العمل بوجودها
لديه، وعمدت دورية من الأمن الداخلي الى "استلامها" منه، أدينت على أساس
المادة 15 من المرسوم 17561/1964 المشار اليها أعلاه، وقد علل القاضي
إدانتها بالشكل الآتي "حيث يتبين من الوقائع والأدلة أن المدعى عليها وبعد
دخولها الأراضي اللبنانية بصورة شرعية أقدمت على الهرب من منزل مخدومتها من
دون إبلاغ المراجع الرسمية المختصة، وحيث إن فعل المدعى عليها هذا يشكل
الجنحة المنصوص عنها في المادة 15 و21 من المرسوم 17651/64 ويقتضي إدانتها
بأحكامها".
والى ذلك، انتهج عدد من القضاة منحى مختلفا بحيث رفضوا تطبيق المادة 15
المشار اليها أعلاه على الترك في القضايا المعروضة عليهم (حوالي 28%)،
وبعضهم كما صرح لنا في مسعى للابتعاد عن نظام الكفالة. فالترك لا يشكل بحد
ذاته جرما، عملا بمبدأ حرية الشخص في ترك عمله، انما يؤدي الترك الى عقوبة
وفق هؤلاء القضاة إذا خالفت العاملة أحكام المادة 7 من القرار 136/1969،
الذي ينظم مسألة إثبات وجود الأجانب في لبنان، والذي يفرض على كل أجنبي
يحمل بطاقة إقامة سنوية ويقيم في لبنان لمدة تفوق ثلاثة أسابيع أن يتقدم
خلال الأسبوع الذي يلي انقضاء هذه المدة الى مديرية الأمن العام التابع له
محل إقامته بغية الحصول على بطاقة إثبات وجود له. وبذلك، وبخلاف ما يفرضه
التوجه القضائي الأكثر شيوعا بالاستناد الى المادة 15 والمشار اليه أعلاه،
يكون للعاملة الراغبة بترك عملها أن تتحرر وفق هذا التوجه الأخير من
الملاحقة الجزائية من خلال تبليغ المديرية العامة للأمن العام مقامها
الجديد فقط، من دون الحاجة الى الحصول على موافقة مسبقة من وزارة العمل أو
من صاحب العمل، الأمر الذي يسمح مبدئيا بفك الرابط بين عقد العمل وشرعية
الإقامة. ومن الأمثلة على هذا التوجه، نذكر الحكم الصادر عن القاضي المنفرد
الجزائي في بيروت، بتاريخ 31/1/2012، حيث اعتبر أن العاملة المدعى عليها
قد تركت العمل خلسة، ولم تبلّغ "القوى الأمنية عن محل إقامتها الجديد..".
إلا أنه بالرغم من هذا الاختلاف الهام على الصعيد المبدئي، يبقى أن
المقاربتين تؤديان عمليا الى نتائج متشابهة تتمثل في معاقبة العاملة على
عدم إعلام السلطات بتغيير مكان إقامتهاما دام يندر جدا أن تقوم عاملة
بإبلاغ السلطات بمكان إقامتها (وهو أمر لا يحدث إلا في حال لجوئها الى
السفارة) وذلك إما لجهلها الكامل لهذا الموجب أو لخوفها الشديد من توقيفها
ومحاكمتها بجرم الفرار وفق ما بات شائعا ومعلوما. كما يلحظ أن بعض القضاة
الذين اعتمدوا هذا التوجه لم يجدوا أي حرج في استخدام عبارة "فرار" فوردت
في 19 حكما (أي 28%) صادرا استنادا الى هذا التوجه، ما يعكس اشتراكهم في
النظرة الدونية لأشخاص العاملات. كما يلحظ أن العقوبة المفروضة بموجب هذا
التوجه كانت عموما معادلة من حيث قسوتها للأحكام المبنية على المادة 15
أعلاه وفق ما نعرضه في مقال منفصل. ويكفي في هذا المجال أن نشير الى أن
عقوبة الحبس المحكوم بها في هذه الحالات تراوحت ما بين 15 يوماً وشهرين،
فيما تراوحت الغرامة المحكوم بها بين 50.000 و600,000 ليرة لبنانية، علما
أنه يتعين حبس العاملة يوما واحدا عن كل عشرة آلاف في حال عدم الدفع وذلك
سندا للمادة 54 عقوبات.
سرقة وفرار
أبرز ما يظهر في الأحكام الصادرة في القضايا التي تم تحريكها بادعاء شخصي،
هو الربط بين الادعاء بالفرار والادعاء بالسرقة الذي يظهر وكأنه بات ملازما
للأول. وضمن عينة الأحكام، نجد 11 قضية تم تحريكها بناء على شكوى مباشرة،
10 منها اشتملت على جرمي السرقة و"الفرار". وإذ يعكس هذا التلازم إرادة
صاحب العمل في تضخيم خسارته الناجمة عن فرار العاملة من منزله، فإن له أيضا
أسبابا إجرائية وفق ما أشار اليه عدد من القضاة وعناصر من قوى الأمن
الداخلي الذين أشاروا الى أن المخافر لا تقوم بفتح محضر إذا تركت عاملة
الخدمة المنزلية مكان عملها إلا في حال السرقة، فيما يطلبون من الكفيل خارج
هذه الحالة التوجه الى النيابة العامة لتقديم شكوى.
ونسجل أن 3 من هذه الأحكام انتهت الى تبرئة العاملة من جرم السرقة، فيما من
بين الـ7 المتبقية والتي انتهت الى أحكام بإدانتها بهذا الجرم، صدرت 5
منها بالصورة الغيابية فاتحة الباب أمام اعتراض العاملات في حال القبض
عليهن. تجدر الإشارة خاصة في هذا المجال الى حيثية أحد هذه الأحكام المعبرة
ومفادها: "حيث إن فعل المدعى عليها لجهة إقدامها على الفرار من منزل
مخدومها الى جهة مجهولة دون إعلام السلطات المختصة ضمن مهلة أسبوع يؤلف
جنحة المادة 7 من القرار 136 والمادة 636 عقوبات". هكذا، من دون أي إثبات
على حصول السرقة، وعلى نحو يؤشر الى تلازم ما بينها وبين الفرار ليس فقط
لدى أصحاب العمل إنما في ذهن بعض القضاة أيضا.
إلا أنه بالمقابل، تم رصد عدد من الأحكام من خارج هذه العينة أظهرت سعي بعض
القضاة الى كبح هذه الممارسة بربط المسألتين. ومن هذه الأحكام مثلا، الحكم
الصادر عن القاضي المنفرد الجزائي في طرابلس، في 29/11/2012، تبعا لادعاء
قدمته صاحبة عمل ضد عاملة لديها بجرم السرقة بعدما كانت تركت منزلها.
وبعدما بين الحكم أن المدعية أقرت أنها تقدمت بدعواها ضد العاملة ليس بسبب
السرقة، إنما لأنها تركت المنزل بسبب كثرة العمل، وأنها أسقطت الدعوى عنها
بعدما عادت العاملة للعمل في منزلها، لم يكتف بتبرئة العاملة من جرم السرقة
لعدم كفاية الدليل إنما أحال القضية أمام "النيابة العامة الاستئنافية في
الشمال من أجل اتخاذ الموقف الذي تراه مناسبا بشأن الادعاء بحق المدعية
المسقطة بجرم الافتراء". وقد ذهب القاضي نفسه أبعد من ذلك في قضية أخرى:
فبعدما تثبت أن العاملة غادرت المنزل بسبب تعرضها للضرب وإساءة المعاملة من
قبل صاحبة العمل، أعلن براءتها من جرم السرقة محيلا "الأوراق لجانب
النيابة العامة الاستئنافية في الشمال من أجل اتخاذ الموقف الذي تراه
مناسبا بشأن الادعاء بحق المدعية (...) بجرم الضرب والإيذاء".
ورغم صدور عدد هام من الأحكام المماثلة عن جهات قضائية عدة بالبراءة،
وأحيانا باعتراف صاحب العمل نفسه، فإننا لم نلق بالمقابل أي دعوى افتراء ضد
أصحاب العمل، علما أن اللجوء الى هذه الدعاوى بات ضرورة لوقف هذه الممارسة
البشعة في اتهام هذه الفئة المستضعفة بالسرقة. وقد عزا عدد من القضاة ذلك
الى تقاعس النيابة العامة عن التحرك رغم إحالة الملفات اليها. وفي هذا
الإطار، كانت المفكرة قد نشرت في عددها الرابع.. تعليقا على
حكم صادر عن القاضي المنفرد الجزائي في البترون في العام 2010. بتغريم صاحب العمل لتعسفه في استعمال حق الادعاء بعدما ثبت له التناقض
"الواضح والفادح والفاضح"في أقواله
[3].
تهميش أسباب الترك وروابط التعسف والاستغلال في هذا الخصوص، تجدر الإشارة الى أن 191 حكما من أصل
210حكما
موضوع الدراسة جاءت على شكل صفحة واحدة تتألف من نموذج حكم مطبوع مسبقا
يتم ملء المعلومات الشخصية عليه (كالاسم والجنسية) ونوع العقوبة ومقدارها،
من دون أي تفصيل لحيثيات القضية أو تعليل قانوني للأسباب الموجبة التي
ارتكز عليها القاضي في إصدار حكمه.
وانطلاقا من ذلك، نرى أن هذه الأحكام تنتهي الى إدانة العاملات فور التثبت
من واقعة الفرار أو الترك والامتناع عن إبلاغ السلطات العامة بذلك، من دون
البحث في الأسباب التي دفعت المدعية الى ذلك، وتحديدا فيما إذا كانت أقدمت
على فعل "الفرار" أو الهرب بسبب خطر معين أو ردا على تعد أو إيذاء جسدي
ونفسي أو استغلال أو إخلال صاحب العمل بأي من شروطه والتزاماته وعلى رأسها
موجب عدم تسديد البدلات. والتطرق لأسباب الترك لا يفيد فقط في معرفة ما إذا
كان نتيجة أسباب قاهرة أو بدافع الضرورة بل أيضا في معرفة ما إذا كانت
عاملة المنزل قد تعرضت لأفعال تجعلها ضحية اتجار، ما يسمح لها بالتبرر من
الملاحقة سندا للمادة 586-(8) الجديدة من قانون العقوبات تبعا لقانون تجريم
الاتجار بالبشر. وبذلك، يكون فعل الترك مجرما بمعزل عن أسبابه.
والتجاهل نفسه نلمحه بشأن شروط عقد العمل الموحد. فرغم أن هذا العقد يلزم
الصمت بشأن إجراءات الفسخ أو مفعوله على الوضع القانوني للعاملة، فإنه
بالمقابل يحدد بوضوح الحالات التي يكون للعاملة فيها حق فسخ العقد على
مسؤولية الكفيل، ويجدر التذكير هنا ب
مطالعة مفوض الحكومة
في إحدى القضايا المقدمة من قبل عاملة في الخدمة المنزلية تطالب بأجورها
المستحقة التي تمنع الكفيل عن دفعها طوال ثلاثة أشهر، أمام مجلس العمل
التحكيمي في بيروت بحيث ورد في هذه المطالعة بأن مسؤولية فسخ العقد تقع على
العاملة بسبب "...فرارها" من المنزل
[4].
ولعله يكفي للتيقن من تهميش أسباب الترك، ومعها أفعال التعسف والاستغلال،
أن نتبين أن العاملات في الخدمة المنزلية كن في الـ210 حكما موضوع العينة،
هن الطرف المدعى عليه "بالجرم".
القضاء مرآة المجتمع وتهميشه لحقوق عاملات المنازل
في رصدنا لبعض أعمال القضاء في مسائل تتعلق بعاملات المنازل، كنا نسعى
لمعرفة فيما إذا كان نجح القضاء في اتخاذ مواقف نقدية إزاء الآراء
الاجتماعية المسبقة التي يعانين منها، بحيث يأخذ بعين الاعتبار مختلف
العناصر التي تؤدي الى هذه النزاعات ضامنا لهن الحماية إزاء التعسف، فضلا
عن المحاكمة النزيهة والعادلة.
ونتيجة هذا الرصد، بدا أن القضاء في مثل هذه القضايا هو مرآة للمجتمع
وللأحكام المسبقة التمييزية ضد العاملات في الخدمة المنزلية الأجنبيات
السائدة فيه أكثر مما هو مساحة لإعادة النظر بها والتدقيق بها على ضوء
مبادئ العدالة والقانون. وإذ نسجل سعي بعض القضاة الى التملص من نظام
الكفالة المفروض عرفا أو أيضا الى الحد من الادعاء التعسفي بالسرقة، فإن
هذه المساعي تبقى جد محدودة وذات مفاعيل عملية تكاد تكون معدومة. فعبارة
فرار لا تزال رائجة، ومعاقبة ترك العمل أيضا ولو بمسميات مختلفة، وفيما يصح
أن قسما كبيرا من الادعاءات بالسرقة المرافقة للادعاء بالفرار تنتهي
بالبراءة، فإن أيا منها لم يتحول الى تهمة ضد صاحب العمل بالافتراء. أما
روابط الاستغلال والتعسف فهي تبقى مغيبة تماما في محاكمة الترك/الفرار.
وبذلك، تظهر تلك العاملات الفارات دوما، ليس على أنهن ضحايا ممارسات
وانتهاكات يتعرضن لها ويجبرهن على ترك أعمالهن بسببها كما هي الحال في
حالات كثيرة، بل على أنهن "مجرمات" يقترفن بتركهن لعملهن فعلا يصح في مجمل
الحالات تجريمهومعاقبته. وبذلك تتحول مخالفة عقد العمل – لو افترضنا أن
العاملة تركت عملها تعسفا – ليس الى نزاع عمل أمام مجلس العمل التحكيمي أو
دعوى مدنية على أساس المسؤولية التعاقدية، بل الى فعل ذي طبيعة جرمية يعاقب
بالحرمان من الحرية، غالبا لأشهر عدة. وهذا أمر، الى جانب عدم قانونيته
الواضحة، يبيّن بذاته التمييز ضد هذه الفئة من العمال، حيث لم تطرح هذه
المسألة يوما ولم يجرم أي عامل آخر على تركه لعمله. فالعمل علاقة تعاقدية
ولا يمكن أن يعاقب شخص جزائيا لعدم رغبته بالاستمرار في العقد، بل أقسى ما
يمكن أن يفرض عليه هو فسخ العقد والتعويض إذا تسبب ذلك بضرر للطرف الآخر،
لكن هذه ليست حال العاملة في الخدمة المنزلية.
وما نأمله هو أن يؤدي تحليل هذه الأحكام وتحويلها الى مادة دائمة للدراسة
الى تغيير الصور النمطية والدونية: فبذلك، وفقط بذلك، يؤدي القضاء وظيفته
الأساسية في تغليب العقل على الخرافات والغرائز.
باحثة في القانون، من فريق المفكرة القانونية
نُشر في العدد العاشر من مجلة المفكرة القانونية