عيدهم عيدان. احتفالات متنوعة لمناسبة عيد الميلاد ورأس السنة، وفرحة لا توصف لخروجهم إلى «الحرية» ليوم واحد، بعيداً عن بيوت مخدوميهم. أبناء وبناء جاليات أفرو - آسيوية مختلفة، يتجهّزون، يزينون، يحتفلون، ويبتهجون بعيد الميلاد على طرقهم الخاصة.
وتبقى لذّة العيد مختلفة بينهم، فهم، في نهاية المطاف، غرباء بعيداً عن أوطانهم، وعائلاتهم، وأطفالهم، وبيوتهم ليست هنا، إنما في النيبال وأثيوبيا وسريلانكا والفيليبين والهند، ...لو وجد بابا نويل، لكان طلبهم الأول والأخير منه هو أن يعود بهم إلى «هناك»، إلى بلادهم الأم، ولو لليلة واحدة فقط.
لكن، بما أنهم هنا، وبما أن مزلاج الشيخ ذي اللحية البيضاء لا يطير، فما العمل؟
حفل فني ساهر مع «أوجان»
سنة تلو الآخرى، استطاع أبناء بعض الجاليات، لاسيما الأثيوبية، «تنظيم صفوفها»، والتحضير لحفلات ميلادية متنوعة، تجلب الفرحة وتجمعهم في سهرات غنائية مبهجة. وهو تحديداً ما تعلن عنه البوسترات واللافتات المنتشرة في بعض أحياء النبعة وبرج حمود وكرم الزيتون والحمراء، بحيث تقدم برنامجاً ساهراً متكاملاً.
وجوه الفنانين والمغنين في الصور مجهولة بالنسبة إلى أي لبناني يمر أمام اللافتة، فلا يمنحها من اهتمامه، في حين يكاد تشاندرا، الشاب الهندي، يقفز من الفرحة أمام اللافتة التي تعلن عن حفل للمغنية «ماهي»، والمغني «أوجان»، والمغنية والعازفة «راجينا». يقول الشاب الذي يعمل في شركة للتنظيفات، إن «هؤلاء ليسوا بفنانين مشهورين، ولكن أكيد هم يعرفون أشهر أغاني رأس السنة الهندية والآسيوية. لا بد من أنهم سيغنون بلغتي، وهي أكثر ما اشتاق إليه». الحفل الذي يتحدث عنه تشاندرا ليس مخصصاً للجالية الهندية فقط، لا بل ان أبناء الجالية النيبالية هم الذيم ينظمونه، مستهدفين فئات مختلفة من أبناء الجالية الأفرو - آسيوية المقيمة في لبنان.
يسهل حفظ تاريخ الحفل الذي يقام اليوم السبت، ويعاد تقديمه في الأول من كانون الثاني 2012، أما موقع الحفل فيسجله الشاب على ورقة صغيرة، إذ من المقرر إقامته في إحدى مدارس منقطة سد البوشرية، ويبلغ سعر البطاقة للفرد الواحد 17000 ليرة لبنانية، أي ما يعادل عشرة في المئة من راتبه الشهري. سيرتادها، على الرغم من أن سعر البطاقة مكلف قليلاً بالنسبة إلى ميزانية تشاندرا، وهو قد أرسل مجموع رواتب أربعة أشهر لعائلته في الهند.
كثر سيرتادون الحفل المذكور، ولن يقتصر احتفالهم على الرقص والغناء، فتبادل الهدايا يشكل جزءاً أساسياً من عيد الميلاد. وهنا، تعتبر المهمة الأصعب والأكثر تحديا بالنسبة إلى هؤلاء العمال الذين يتقاضون رواتب متدنية جداً، بالمقارنة مع قيمة السلع في لبنان. البديل التجاري هو المتاجر المخصصة لهم، والتي تبيع منتجات بلدانهم الغذائية، ومستحضرات التجميل والكريمات، بالاضافة الى سلسلة المتاجر التي تعرف باسم «وان دولار»، وتبيع الكثير من الخزفيات والألعاب والعطور وزينة الشعر والأكسسورات، وغيرها. لكن، مع أن اسم المتجر يوحي بأن قيمة أي سلعة فيه لا تتخطى الدولار الواحد، يصعب على «أوتي» أن تجد هدية مناسبة لصديقها تقل قيمتها عن خمسة آلاف ليرة لبنانية (نحو 3 دولارات)، وهو مبلغ يضاف إلى أكثر من عشرين ألف ليرة، بدل هدايا لصديقاتها وجاراتها في الحي، وهي تعمل في سن الفيل.
تبولة وانجيرا والدورو وات
تعمل أوتي في لبنان منذ أكثر من أربع سنوات، وتعيش سباقاً مع الوقت، فلا تملك أكثر من ساعة لتنتقي هداياها، وتشتري بعض مكونات طبق أثيوبي تقليدي تشارك بواسطته بإعداد مائدة العشاء المنزلي، في منزل صديقتها في كرم الزيتون. تجدها تتلفت بحركات سريعة بحثاً عن تذكارات مناسبة يصعب انتقاؤها في المتجر المزدحم بشابات وشبان من مختلف الجاليات، يعيشون بدورهم مغامرة شبيهة.
تشرح الفتاة الأثيوبية أن عيد رأس السنة الأثيوبية لا يحل في الأول من كانون الثاني، بل في السابع منه، وفقاً للتقويم القبطي، لكن، لأسباب كثيرة، تتم «لبننة» موعد العيد بحيث يحظى أبناء الجاليات بفرصة للالتقاء والاحتفال، علماً أن الكثير من الاثيوبين يكررون الاحتفال في السابع من كانون الثاني، الذي يسمى «غنّنا».
«لبننة» العيد لا تكون فقط لجهة موعده، بل أيضا على مستوى الأطعمة التي تحضر لعشاءي الميلاد ورأس السنة، إذ تصرّ «روكشونا» على تحضير بعض أصناف المازة اللبنانية، لا سيما التبولة والحمص وأقراص الكبة المقلية. وتضاف إليها طبعاً الأطباق التقليدية في البلد الأم لروكشونا، أي بنغلادش، مثل «البنتا اليش» المكون من الأرز والسمك لمجفف، والأطباق المشبعة بالكاري والخضار المقلية، بالاضافة الى حلويات «الشوم شوم» و«الرزامالي». تقول الشابة العشرينية إنها «موعودة»، خلال عشاء رأس السنة، بتذوق أطباق تقليدية مختلفة من أثيوبيا والنيبال، لاسيما «الدورو وات» وخبز «انجيرا».
لا يكتمل عيد أي من العمال المنزليين من دون معايدات العائلة عبر الهاتف، علّه يخفف من ثقل البعد والمسافة. سؤالان أساسيان يتكرران في بداية كل اتصال في السنترالات المكتظة والمتواجدة في معظم المناطق، من برج حمود والنبعة والحمراء وصولاً الى صبرا: «هل وصلت المبالغ المادية المحولة من لبنان؟ وهل وصلت الرسائل وبعض الصور عبر البريد؟». بلغات مختلفة، يتكرر السؤالان، هنا في السنترال الصغير في الشارع المتفرع من شارع الحمراء الرئيسي، وبعدها، تكر سبحة الخبريات التي يجب أن تُنقل بأسرع وقت ممكن، كي لا ترتفع قيمة المخابرات الهاتفية.
عنصرية لا حدود لها
في جانب مظلم للأعياد، يعيش عدد من أبناء الجالية حالة مستمرة من التمييز العنصري الذي يمارسه بحقهم مواطنون لبنانيون. ويمكن القول ان تلك الممارسات ليست محمولة ولا مسموحة، كقصة ناندي التي ترويها بحزن، مكررة: «أنا مش حرامي، أنا مش حرامي». ناندي فتاة من الجالية السريلانكية، تعمل في لبنان منذ أربع سنوات، وكل ما كانت ترغب في فعله هو شراء فستان جديد لمناسبة عيد رأس السنة.. ما يصعب تحقيقه في متجر الألبسة التي دخلته ناندي منذ يومين، في منطقة برج حمود، لتنتقي فستانها. صاحبة المحل لاحقتها كظلها، تأملتها طويلاً ولم يعجبها «منظرها». تجاهلتها الشابة السريلانكية، فهي باتت معتادة على عنصرية تتفوق على نفسها من بعض اللبنانيين. اختارت ناندي ثلاثة فساتين لتقوم بتجربتها، واختيار واحد يناسبها، لكن، ما ان توجهت الى غرفة القياس، حتى هرعت اليه البائعة رافضة أن تجربها، رامية اياها بجمل عنصرية من نوع: «ما فيك تقيسهم، يا بتوسخيه يا بتسرقيهم».
لم تجب ناندي بأكثر من جملة واحدة: «أنا مش حرامي».. وقفلت خارجة من المتجر. تقول ناندي إنها لم تصدق أن مخدومتها سمحت لها أخيراً، للمرة الأولى، بمشاركة أصدقائها الاحتفال برأس السنة، وجل ما كانت تحلم به هو فستان جديد. لكن، نظراً للواقع اللبناني المريض، لم تبتع فستاناً جديداً، بل لجأت إلى إحدى صديقاتها التي تعيش وحدها في منزل صغير في كرم الزيتون، لتشكو همها وتستعين بها للتجهّز للحفل.
ليس بعيداً من المنزل المذكور، تعيش تيغست وابنة عمتها، في غرفة صغيرة لا يدخلها الكثير من الضوء. تخشى الفتاتان الاجابة عن أي سؤال، خوفاً من تشويه اعلامي سبق أن أضر بهما. تقول تيغست إنها «لم تصدق أنها أخيراً وجدت لنفسها غرفة صغيرة في هذه المنطقة، بعدما طردت من منطقة برج حمود إثر التقرير الاعلامي العنصري الذي صور العمال والمهاجرين كمفسدين». تكرر الفتاة: «نحن ما في شي نعمل، أنا غود، أنا بس بدو يُشتغل»، تقول جملتها هذه وتعود لتنهمك بتحضيرات بسيطة لعيد الميلاد، وتزيين شجرتها الصغيرة التي لا يتعدى طولها الثلاثين سنتيمتراً. شجرة صغيرة، إنما تكفيها لتحتفل بعيد الميلاد، بالحد الأدنى الممكن. الشابة السريلانكية لم تحظ يوماً بشجرة لعيد الميلاد. في منزلها في جنوب سريلانكا، اعتادت تغيست على زينة مكونة من الشرائط الورقية البرتقالية والخضراء والحمراء والبنفسجية.. ولم يكفها مدخولها يوماً لتشتري شجرة وتزينها بالطابات الحمراء اللامعة، كحال شجرتها البيروتية.
الشجرة المتمركزة تحت سقف رطب، أضيئت. واليوم، بدأت تيغست الاحتفال بعيد الميلاد.
No comments:
Post a Comment